إقرارات سنودس دورت

المقدمة

بعد عصر الإصلاح، برزت واحدة من أكبر التحديّات التي واجهت الإيمان الرسولي داخل الكنيسة الهولنديّة المُصلَحة، بسبب قس ومعلِّم يدعَى جاكوب أرمينيوس (1559-1609)، وبسبب أتباعه. درس أرمينيوس في أكاديميّة جنيف حيث كان واعدًا، ولم تكن هناك أيّة مؤشّرات واضحة على انحرافه عن العقيدة السليمة. كان من الصعب التأكد من المخاوف التي أحاطت بأرمينيوس لأنه لم ينشر أيّة كتابات في أثناء حياته. لكن في عام 1608، طُلب منه تدوين آرائه بغرض تقييمها. وقد أظهر ما دوَّنه رفضًا للعقيدة الكالفينيّة عن الاختيار.

وفي الأعوام التي تلت وفاة أرمينيوس، ازداد أولئك الذين ادَّعوا أنهم تلاميذه تطرفًا في أفكارهم اللاهوتيّة. وازداد تَبَنِّيهم للآراء التي نسميها اليوم الآراءالأرمينيةأوالشبه بيلاجيّة، والتي تعلّم أن للخطية تأثير محدود على القدرات البشريّة، وأنه يوجد قدر من الحريّة البشريّة يجعل الإنسان قادرًا على التعاون مع نعمة الخلاص أو مقاومتها. وقد لخَّصوا آراءهم في وثيقة عُرفت باسماحتجاج عام 1610″. احتوى هذا الملخَّص على خمس نقاط: الاختيار المشروط، والكفارة العامة، والفساد الكامل، والنعمة التي يمكن مقاومتها، وعدم اليقين بشأن مثابرة القديسين.

اتَّسمت الأعوام التي امتدت منذ وفاة أرمينيوس وحتى اجتماع سنودس دورت بجدل لاهوتي متزايد، وبانقسامات في الكنيسة. ازدادت الضغوط على المجتمع الهولندي حتى أن حربًا أهليّة قد صارت بالحقيقة احتمالًا واردًا. الشيء الوحيد الذي حال دون وقوع هذه الحرب هي الدعوة إلى انعقاد السنودس الوطني للكنيسة الهولنديّة المُصلَحة، في ميناء دوردريخت (Dordrecht). كانت مدينة دوردريخت ميناءً يقع في مقاطعة هولندا (ويُختصَر اسم المدينة عادة في اللغة الإنجليزية إلى دورت “Dort” أو دوردت “Dordt”).

تحوّل سنودس دورت العظيم إلى اجتماع دوليٍّ بحق. فقد جاء مُفوَّضون من بريطانيا العظمى، ومن أجزاء عديدة من ألمانيا، وسويسرا المتحدثة باللغة الألمانيّة، ومن جنيف أيضًا. كان هذا السنودس اجتماعًا متميّزًا للغاية جمع بين الكثير من أفضل العقول المُصلَحة في أوروبا. حضر السنودس حوالي تسعون من المُفوَّضين الكنسيّين، واجتمعوا معًا لما يقرب من ستة أشهر، من 13 نوفمبر عام 1618 وحتى 29 مايو عام 1619. وقد بدأوا أولًا بالاستماع إلى الأرمينيّين، ثم قراءة كتاباتهم.

كان أعظم إنجاز لهذا السنودس هو إصدار ما اشتهر بعد هذا باسمإقرارات دورت” (تأتي كلمة “canons” التي تترجَمإقراراتمن الكلمة اليونانية التي تعني قاعدة أو قانون). وهكذا، فإن إقرارات دورت هي قوانين سنودس دوردريخت، التي تقدِّم الإجابات المُصلَحة عن النقاط الأرمينيّة الخمسة.

يتحدّث القسم (أو الفصل) الرئيسي الأول من الإقرارات عن الاختيار غير المشروط. ويتحدّث القسم الرئيسي الثاني عن الكفّارة المحدودة. يدمج السنودس القسمان الرئيسيان الثالث والرابع معًا كي يبيِّن أن الفساد الكلي لا يمكن أن يقوم إلا حين يُقدَّم تعليم عن ضرورة النعمة التي لا يمكن أن تُقاوَم. ويعلِّم القسم الرئيسي الخامس عن مثابرة القديسين بسبب نعمة الله الحافظة. من هذه الأقسام الرئيسيّة الخمسة ظهر ما يعرف الآن باسمالنقاط الخمسة للكالفينيّة أو TULIP”. ينقسم كل قسم رئيسي من العقيدة إلى العديد من البنود التي تم التأكيد عليها، ثم يليها رفضٌ لضلالات أرمينيّة محدَّدة.

تُعَد إقرارات دورت إرثًا ينبغي تقدير قيمته، وأيضًا استخدامه في كنائسنا، وفي صفوف تعليم العقيدة عن طريق السؤال والجواب، وأيضًا كنموذج للكيفيّة التي ينبغي أن نجيب بها على أيّة اعتراضات أو تحديّات.

القسم الرئيسي الأول من العقيدةعن سابق التعيين الإلهي

البند 1

بما أنَّ جميع البشر قد أخطأوا في آدم، وهم واقعون تحت اللعنة، ويستحقون الموت الأبدي، فإن الله لم يكن ليرتكب أيَّ ظلم من نحوهم إن تركهم جميعًا يهلكون، وأسلمهم إلى الدينونة لأجل الخطايا، كما قال الرسول: “لكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ” (رومية 3: 19). وكما يقول العدد 23: “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ“. وأيضًا كما تقول رومية 6: 23 “لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ“.

البند 2

ولكن بهذا أُظهِرت محبة الله، أنه قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم، لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. “بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ” (1 يوحنا 4: 9)؛لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يوحنا 3: 16).

البند 3

ولكي يُؤتَى بالبشر إلى الإيمان، يرسل الله في رحمته، إلى مَن يشاء ووقتما يشاء، رسلاً حاملين هذه البشارة السارة للغاية؛ وبواسطة خدمتهم، يُدعَى البشر إلى التوبة والإيمان بالمسيح مصلوبًا. “فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟” (رومية 10: 14-15).

البند 4

يَمكُث غضب الله على مَن لا يؤمنون ببشارة الإنجيل هذه. ولكنَّ مَن ينالوها، ويقبلون يسوع المُخلّص بإيمانٍ حقيقيٍّ وحَيٍّ، يُنقَذون بواسطته من غضب الله ومن الهلاك، ويُمنَحون هبة الحياة الأبدية.

البند 5

إن سبب أو خطأ عدم الإيمان هذا، وكذلك كافة الخطايا الأخرى، لا يكمُن في الله بأي حال من الأحوال، بل في الإنسان نفسه؛ بينما الإيمان بيسوع المسيح، والخلاص بواسطته، هو عطية الله المجانيّة، كما هو مكتوب: “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ” (أفسس 2: 8)؛لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ …” (فيلبي 1: 29).

البند 6

إن نوال البعض، دون غيرهم، عطية الإيمان من الله نابعٌ من قضاء الله الأزلي، لأنهمَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ” (أعمال الرسل 15: 18)؛الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ” (أفسس 1: 11). وفقًا لهذا القضاء، يُليِّن الله بنعمته قلوب المختارين، مهما كانت معاندة، ويرغِّبهم في أن يؤمنوا؛ بينما في دينونته العادلة يترك غير المختارين لشرهم وقساوة قلوبهم. وفي هذا يُستعلَن بشكل خاص التمييز الحكيم، والرحيم، والعادل في الآن ذاته، بين البشر الغارقين بالتساوي في الفساد؛ أو يُستعلَن قضاء الاختيار والرفض المُعلَن في كلمة الله، والذي على الرغم من تحريف ذوي الأذهان الفاسدة، والنجسة، والمضطربة له لهلاكهم، يمنح تعزية تفوق الوصف للنفوس المقدَّسة والتقية.

البند 7  

إن الاختيار هو القصد غير المتغيِّر لله، الذي بموجبه، مِن قبل تأسيس العالم، وبنعمةٍ خالصةٍ، وبحسب مسرة مشيئته السياديّة، قد اختار من بين كلِّ الجنس البشري، الذي كان قد سقط بخطأ شخصي منهم من حالة البراءة الأولى إلى حالة الخطية والهلاك، عددًا محدَّدًا من الأشخاص للفداء في المسيح، الذي عيَّنه منذ الأزل وسيطًا ورأسًا للمختارين، وأساسًا للخلاص. هؤلاء المختارون، مع أنهم بالطبيعة ليسوا أفضل أو أكثر استحقاقًا من الآخرين، بل هم غارقون مثلهم في البؤس والشقاء عينه، قضَى الله بأن يعطيهم للمسيح، كي يخلُصوا بواسطته، وكي يدعوهم ويجتذبهم على نحو فعّال إلى شركته بواسطة كلمته وروحه، وكي يمنحهم الإيمان الحقيقي، والتبرير، والتقديس؛ وفي النهاية، كي يمجِّدهم، بعد حفظه إيّاهم بقوةٍ في شركة ابنه، لإظهار رحمته ولمدح مجد نعمته، كما هو مكتوب: “كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي المحبة إذ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ” (أفسس 1: 4-6)؛ وأيضًا في موضعٍ آخر: “وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا” (رومية 8: 30).

البند 8

لا توجد أحكام مختلفة للاختيار، ولكن القضاء واحدٌ وهو ذاته من جهة جميع مَن يخلُصون، سواء في ظل العهد القديم أو في ظل العهد الجديد؛ وهذا لأن الكتاب المقدس يُعلِن أن مسرة، وقصد، ومشورة المشيئة الإلهية واحدة، والتي بحسبها اختارنا الله منذ الأزل، لكلٍّ من النعمة والمجد، ولكلٍّ من الخلاص وطريق الخلاص، الذي سبق فعيَّنه لكي نسلُك فيه.

البند 9

لم يُبنَ هذا الاختيار على سابق المعرفة بإيمان الإنسان، أو إطاعته للإيمان، أو قداسته، أو أيّة صفة أو توجُّه صالح آخر فيه، باعتبارها المطالب الأساسية، أو الأسباب، أو الشروط التي اعتمد عليها الاختيار. ولكن البشر مًختارون للإيمان، ولإطاعة الإيمان، وللقداسة، وما إلى ذلك؛ إذن، الاختيار هو منبع كلِّ صلاح للخلاص، ومنه ينبع الإيمان والقداسة وعطايا الخلاص الأخرى، وأخيرًا الحياة الأبدية نفسها، كثمارٍ أو نتائج له، بحسب قول الرسول: “كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، [ليس لأننا كنّا ولكن] لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ” (أفسس 1: 4).

البند 10

إن مسرة الله هي السبب الأوحد وراء هذا الاختيار المُنعِم، الذي لا يتمثّل في أنَّ الله قد اختار من بين جميع الصفات أو الأفعال البشريّة الممكِنة البعضَ كي تكون شرطًا للخلاص، بل أنه سُرَّ بأن يتبنّى من بين الجمهور العام من الخطاة بعضَ الأشخاص المحدَّدين كي يكونوا شعبًا خاصًا له، كما هو مكتوب: “لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا … قِيلَ لَهَا (أي لرفقة): «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِير». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»” (رومية 9: 11-13)؛ وأيضًا: “وَآمَنَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (أعمال الرسل 13: 48).

البند 11

وكما أن الله نفسه كليّ الحكمة، وغير قابل للتغيير، وكليّ المعرفة، وكليّ القدرة، هكذا أيضًا لا يمكن إعاقة اختياره، أو تغييره، أو التراجع عنه؛ أو إبطاله؛ كما لا يمكن أن يُرفَض المختارون، أو يتناقص عددهم.

البند 12

يَصِل المختارون في الوقت المعيَّن، وإن كان بدرجات متفاوتة وقياسات مختلفة، إلى يقينٍ من اختيارهم الأزلي وغير المتغير، لا عن طريق البحث والتنقيب الفضولي في أمور الله السرية والعميقة، بل بأن يلاحظوا في أنفسهم، بفرح روحي وسرور مقدَّس، ثمار الاختيار الأكيدة المُشار إليها في كلمة اللهمثل إيمان حقيقي بالمسيح، ومخافة بنويّة، وحزن بحسب مشيئة الله على الخطية، وجوع وعطش إلى البر، وما إلى ذلك.

البند 13

إن الوعي بهذا الاختيار والتيقُّن منه يمدَّان أولاد الله بسببٍ إضافيٍّ كي يتَّضعوا قدامه كلَّ يومٍ، ويحمدوا شدة مراحمه، ويطهِّروا أنفسهم، ويردُّوا في امتنانٍ محبةً حارةً لذاك الذي أظهر أولاً محبةً شديدة بهذا القدر من نحوهم. إن التفكير في عقيدة الاختيار هو أبعد ما يكون عن أن يشجِّع على الإهمال في حفظ الوصايا الإلهيّة، أو عن أن يُغرِق البشر في ضمانٍ جسديٍّ. بل هذه، في دينونة الله العادلة، هي النتائج المعتادة لاعتبار نعمة الاختيار في طيشٍ أمرًا مسلَّمًا به، أو للعبث الباطل والمستهتر بها من جانب مَن يرفضون السير في طرق المختارين.

البند 14

كما أنَّ عقيدة الاختيار الإلهي الذي بحسب مشورة الله كليّة الحكمة قد أُعلِنت من قِبَل الأنبياء، والمسيح نفسه، والرسل، وأيضًا أُعلِنت بوضوح في الكتاب المقدس، سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، هكذا أيضًا لا يزال ينبغي إذاعتها في الوقت والمكان المناسبين داخل كنيسة الله، التي لأجلها على وجه الخصوص أُعِدَّت هذه العقيدة؛ شريطة أن يُجرَى ذلك في توقير، وبروح التمييز والتقوى، ولمجد اسم الله الأقدس، ولإنعاش وتعزية شعبه، دون محاولة التنقيب عبثًا في طرق العَليِّ السرية. “لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ اللهِ” (أعمال الرسل 20: 27)؛يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ! لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟” (رومية 11: 33–34)؛فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ” (رومية 12: 3)؛فلِذَلِكَ إِذْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُظْهِرَ أَكْثَرَ كَثِيرًا لِوَرَثَةِ الْمَوْعِدِ عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ ،حَتَّى بِأَمْرَيْنِ عَدِيمَيِ التَّغَيُّرِ، لاَ يُمْكِنُ أَنَّ اللهَ يَكْذِبُ فِيهِمَا، تَكُونُ لَنَا تَعْزِيَةٌ قَوِيَّةٌ، نَحْنُ الَّذِينَ الْتَجَأْنَا لِنُمْسِكَ بِالرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا” (عبرانيين 6: 17-18).

البند 15

إن ما يفسِّر لنا على نحو مميَّز نعمة الاختيار الأزليّة وغير المُستحَقة، ويمتدحها في أعيننا، هي شهادة الكتاب المقدس الصريحة بأنه ليس الجميع، بل البعض فقط هم المختارون، بينما تمَّ في القضاء الأزلي العبور عن البعض الآخر، الذين قضى الله، بحسب مسرته السياديّة، ومُطلَقة العدل، والتي بلا لوم، ولا يمكن أن تتغيّر، بأن يتركهم في البؤس العام، الذي أغرقوا أنفسهم فيه بإرادتهم، وألا يمنحهم إيمان الخلاص ونعمة التغيير؛ لكنه قضى، من خلال سماحه لهم في دينونته العادلة بأن يتبعوا طرقهم الخاصة لإظهار عدله في النهاية، بأن يدينهم ويهلكهم إلى الأبد، ليس فقط لأجل عدم إيمانهم، بل أيضًا لأجل جميع خطاياهم الأخرى. هذا هو قضاء الرفض الذي لا يجعل الله هو مصدر الخطية بأي حال من الأحوال (الشيء الذي يُعَد حتى التفكير فيه تجديفًا)، بل يُعلن أنه ديَّان مهيب، وبلا لوم، وعادل ومنتقم منها.

البند 16

أولئك الذين لم يختبروا بعد أن يُخلَق على نحوٍ فعّالٍ بداخلهم إيمانٌ حيٌّ بالمسيح، ويقينٌ مؤكدٌ للنفس، وسلامٌ للضمير، وسعيٌ جادٌّ وراء الطاعة البنويّة، وافتخارٌ في الله بالمسيح، ولكنهم مع ذلك مثابرون في استخدام الوسائط التي عيّنها الله لإحداث هذه النِعم فينا، ينبغي ألا ينزعجوا من ذكر عقيدة الرفض، وألا يصنفوا أنفسهم ضمن المرفوضين، بل عليهم أن يثابروا باجتهادٍ في استخدام الوسائط، وينتظروا بأشواقٍ ملتهبة، في إخلاصٍ واتضاعٍ، زمنَ نعمة أغنى. كذلك أيضًا أولئك الذين، على الرغم من رغبتهم الجادة في الرجوع إلى الله، وإرضائه وحده، والتحرر من جسد الموت، لم يتمكنوا بعد من بلوغ ذلك المقدار من القداسة والإيمان الذي يطمحون إليه، ليس لديهم ما يدعوهم إلى الارتعاد من عقيدة الرفض؛ لأن الإله الرحيم قد وعد بأنه لن يطفئ فتيلة مدخنة أو يقصف قصبة مرضوضة. لكن هذه العقيدة مرعبة بحقٍّ لأولئك الذين، دون أدنى اكتراث منهم بالله أو بالمخلّص يسوع المسيح، قد أسلموا أنفسهم بالكامل لهموم العالم وملذّات الجسد، طالما لم يرجعوا بجدية بعد إلى الله.

البند 17

بما أننا ينبغي أن نكّون حُكمًا عن مشيئة الله من كلمته التي تشهد بأن أبناء المؤمنين مقدَّسون، ليس بالطبيعة، بل بفضل عهد النعمة، الذي هم مشمولون فيه مع آبائهم، فلا يوجد ما يدعو الآباء الأتقياء إلى التشكّك في اختيار وخلاص أبنائهم الذين يُسَرُّ الله بأن يأخذهم من هذه الحياة في طفولتهم.

البند 18

نجيب أولئك الذين يتذمَّرون على نعمة الاختيار المجانيّة وعلى الصرامة العادلة لعقيدة الرفض، قائلين مع الرسول: “بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟” (رومية 9: 20)، ونقتبس من كلام مخلِّصنا قائلين: “أوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟” (متى 20: 15). ولذلك، في هيامٍ مقدَّس بهذه الأسرار، نهتف مع الرسول: “يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ! لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟ لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ” (رومية 11: 33-36).

ارجع الى قائمة المحتويات

بعد شرح العقيدة الصحيحة عن الاختيار والرفض، يرفض السنودس ضلالات أولئك الذين يعلِّمون الآتي:

الرفض 1

أن مشيئة الله بأن يُخلِّص مَن سوف يؤمنون ومَن سوف يثابرون في الإيمان وفي إطاعة الإيمان هي كل ما يتضمنه قضاء الاختيار للخلاص، وأنه لم يُعلَن في كلمة الله أي شيء آخر عن هذا القضاء.

لأن هؤلاء يخدعون البسطاء، ويناقضون بوضوح الكتاب المقدس الذي يصرّح بأن الله لن يخلِّص مَن سوف يؤمنون فحسب، بل هو أيضًا قد اختار منذ الأزل بعض الأشخاص المحدَّدين الذين سيمنحهم، دون سواهم، في الوقت المعيَّن، كلًّا من الإيمان بالمسيح والمثابرة، كما هو مكتوب: “أنا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ” (يوحنا 17: 6)؛وَآمَنَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (أعمال الرسل 13: 48)؛ وأيضًا: “كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ” (أفسس 1: 4).

الرفض 2

أن هناك أنواعًا مختلفة من اختيار الله للحياة الأبدية: النوع الأول عام وغير محدَّد، والنوع الآخر خاص ومحدَّد؛ وأن النوع الأخير بدوره إما غير كامل، وقابل للإلغاء، وغير قاطع، ومشروط؛ أو كامل، ولا رجعة فيه، وقاطع، ومُطلَق. وكذلك أيضًا، أنه يوجد اختيار للإيمان وآخر للخلاص، بحيث يمكن للاختيار أن يكون للإيمان الذي يُبرِّر دون أن يكون اختيارًا قاطعًا للخلاص.

لأن هذا ابتداع من نتاج عقول البشر، مُختلَق دون أدنى اعتبار للكتاب المقدس؛ وبه تَفسَد عقيدة الاختيار، وتُقطَع سلسلة خلاصنا الذهبية: “وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا” (رومية 8: 30).

الرفض 3

أن مسرة الله وقصده، اللذين يتحدث عنهما الكتاب المقدس في عقيدة الاختيار، لا يتمثلان في أن الله قد اختار بعض الأشخاص دون آخرين، بل في أنه قد اختار من بين جميع الشروط الممكِنة (التي من بينها أيضًا أعمال الناموس)، أو من بين النظام الكامل للأشياء، فِعلَ الإيمان، الذي هو غير مُستحِق بحكم طبيعته، بالإضافة إلى طاعته غير الكاملة، ليكون شرطًا للخلاص، وأنه بنعمته يحتسب أن هذه الطاعة في ذاتها كاملة، ويعتبرها مستحِقة لمكافأة الحياة الأبدية.

لأنه بسبب هذه الضلالة الضارة تصير مسرة الله واستحقاقات المسيح بلا أي تأثير، ويبتعد البشر بفعل أسئلة غير مجدية عن حق التبرير بالنعمة وعن بساطة الكتاب المقدس، ويُتهَم بالكذب تصريح الرسول هذا: “الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّة” (2 تيموثاوس 1: 9).

الرفض 4

أنه في الاختيار للإيمان، هناك شرط ما يلزم توافره سلفًا، وهو أن يستخدم الإنسان نور إعلان الطبيعة استخدامًا صحيحًا، وأن يكون تقيًا، ومتضعًا، ووديعًا، وأهلًا للحياة الأبدية، وكأن الاختيار معتمدٌ بأي شكلٍ من الأشكال على هذه الأشياء.

لأن هذا يحمل سمة تعليم بيلاجيوس (Pelagius)، ويتعارض مع تعليم الرسول، الذي كتب: “الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا، اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ” (أفسس 2: 3-9).

الرفض 5

أن الاختيار غير الكامل وغير القاطع لأشخاص محدَّدين للخلاص قد وقع بسبب سابق المعرفة بالإيمان، أو التغيير، أو القداسة، أو التقوى، إما بدأت أو استمرت لبعض الوقت؛ بينما الاختيار الكامل والقاطع قد وقع بسبب سابق المعرفة بالمثابرة إلى النهاية في الإيمان، والتغيير، والقداسة، والتقوى؛ وأن هذا هو الاستحقاق الصالح والكتابي الذي لأجله يكون المختار أكثر استحقاقًا من غير المختار؛ وأنه لذلك، ليس الإيمان، وإطاعة الإيمان، والقداسة، والتقوى، والمثابرة هي نتائج الاختيار غير المتغيِّر للمجد، بل هي شروطٌ، إذ يلزم توافُرها سلفًا، سبق فعُرِف استيفاء مَن سيُختارون بالكامل لها، وهي أسباب دونها لا يقع الاختيار غير المتغيِّر للمجد.

يتعارض هذا مع كلِّ الكتاب المقدس، الذي يغرس باستمرار في الأذهان التصريح التالي وما يشابهه: أن الاختيار ليس من أعمال، بل مِن الذي يدعو. “لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الِاخْتِيَارِ لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو” (رومية 9: 11)؛وَآمَن جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (أعمال الرسل 13: 48)؛كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ” (أفسس 1: 4)؛ليْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ” (يوحنا 15: 16)؛وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً” (رومية 11: 6)؛فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ” (1 يوحنا 4: 10).

الرفض 6

أنه ليس كل اختيار للخلاص هو اختيار غير متغيِّر؛ ولكن بعض المختارين، على الرغم من أيِّ قضاء أصدره الله، يمكن أن يهلكوا، وبالفعل هم يهلكون.

لأنهم بهذا الخطأ الفادح يجعلون الله قابلاً للتغيير، ويهدمون التعزية التي يحصل عليها الأتقياء من جراء ثبات اختيارهم، ويناقضون الكتاب المقدس الذي يعلّم أن المختارين لا يمكن أن يضلُّوا: “حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا” (متى 24: 24)؛ وأن المسيح لا يتلف أولئك الذين أعطاه الآب إياهم: “وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا” (يوحنا 6: 39)؛ وأن الله قد مجَّد أيضًا أولئك الذين سبق فعينهم، وسبق فدعاهم، وسبق فبررهم: “وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا” (رومية 8: 30).

الرفض 7

أنه لا وجود في هذه الحياة لأيّة نتائج أو وعي بالاختيار غير المتغيّر للمجد، أو لأي يقين فيه، عدا ذلك الذي يعتمد على شرط متغيِّر وغير مؤكَّد.

لأن التحدّث عن يقين غير مُؤكَّد ليس فقط شيئًا منافيًا للمنطق، بل هو مخالفٌ أيضًا لاختبار القديسين، الذين بفضل وعيهم باختيارهم يبتهجون مع الرسول ويمدحون نعمة الله هذه، كما في أفسس 1؛ والذين بحسب وصية المسيح يفرحون مع تلاميذه أن أسماءهم كُتِبت في السماوات: “بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ” (لوقا 10: 20)؛ وأيضًا الذين يواجهون بهذا الوعي باختيارهم سهام إبليس الملتهبة، سائلين: “مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟” (رومية 8: 33).

الرفض 8

أن الله، بكل بساطة بفضل مشيئته الصالحة، لم يُقرِّر سواء أن يترك أيِّ إنسان في حالة سقوط آدم وفي الحالة العامة من الخطية والدينونة، أو أن يَعبُر عن أي إنسان في أثناء منح النعمة، اللازمة للإيمان والرجوع إلى الله.

لأن هذا معلَن على نحو مُؤكَّد: “فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ” (رومية 9: 18)؛ وأيضًا: “لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لِأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ” (متى 13: 11). وكذلك: “أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ” (متى 11: 25–26).

الرفض 9

أنَّ السبب في إرسال الله لبشارة الإنجيل إلى أناس دون آخرين لا يعود فقط وحصريًّا إلى مسرته، بل بالأحرى إلى حقيقة أن البعض أفضل وأكثر استحقاقًا من الآخرين الذين لا تصلهم بشارة الإنجيل.

لأن موسى قد أنكر هذا، حين خاطب شعب إسرائيل قائلًا: “هُوَذَا لِلرَّبِّ إِلهِكَ السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهَا. وَلكِنَّ الرَّبَّ إِنَّمَا التَصَقَ بِآبَائِكَ لِيُحِبَّهُمْ فَاخْتَارَ مِنْ بَعْدِهِمْ نَسْلهُمُ الذِي هُوَ أَنْتُمْ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ كَمَا فِي هَذَا اليَوْمِ” (تثنية 10: 14-15). كما قال المسيح: “وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيمًا فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ” (متى 11: 21).

ارجع الى قائمة المحتويات

القسم الرئيسي الثاني من العقيدةعن موت المسيح وفداء البشر بواسطة هذا الموت

البند 1

إن الله ليس فائق الرحمة فحسب، لكنه أيضًا فائق العدل. ويستلزم عدله (كما أعلن هو نفسه في كلمته) معاقبة خطايانا التي اقترفناها في حقِ جلاله غير المحدود، ليس فقط بعقابٍ زمني، بل بعقابٍ أبدي، في كلٍّ من الجسد والروح؛ الذي لا يسعنا الإفلات منه ما لم تُقدَّم ترضية لعدل الله.

البند 2

وبما أننا عاجزون إذن عن تقديم هذه الترضية بأنفسنا أو عن إنقاذ أنفسنا من غضب الله، فقد سُر في رحمته غير المحدودة أن يبذل ابنه الوحيد، ضامنًا لنا، الذي صار خطية ولعنة لأجلنا وعوضًا عنّا، حتى يسترضي العدل الإلهي نيابة عنّا.

البند 3

إن موت ابن الله هو الذبيحة والترضية الوحيدة والكاملة تمامًا عن الخطايا، وهو يحظى بقدرٍ وقيمةٍ غير محدودة، والكافي بسعةٍ للتكفير عن خطايا العالم أجمع.

البند 4

يستمد هذا الموت قيمته ومنزلته غير المحدودة من هذه الاعتبارات أن الشخص الذي خضع له لم يكن فقط إنسانًا بالحقيقة وقدوسًا تمامًا، ولكنه أيضًا ابن الله الوحيد، المساوي للآب وللروح القدس في الجوهر السرمدي وغير المحدود، وتلك هي المؤهلات التي كانت لازمة كي تجعل منه مخلِّصًا لنا؛ ولأن هذا الموت كان مصحوبًا بمقاساة لغضب الله ولعنته المُستحَقين علينا لأجل الخطايا.

البند 5

بالإضافة إلى ذلك، يقول وعد بشارة الإنجيل إن كل مَن يؤمن بالمسيح مصلوبًا لن يهلك، بل تكون له الحياة الأبدية. هذا الوعد، إلى جانب الوصية بالتوبة والإيمان، ينبغي أن يُعلَن ويذاع دون تفرقة أو تمييز لجميع الأمم، ولجميع البشر، الذين يرسل لهم الله بشارة الإنجيل بحسب مسرته.

البند 6

وفي حين أنَّ كثيرين ممن يُدعَون بواسطة بشارة الإنجيل لا يتوبون ولا يؤمنون بالمسيح، بل يهلكون في عدمِ الإيمان، لكن هذا لا يرجع إلى أي عيبٍ أو قصورٍ في الذبيحة التي قدمها المسيح على الصليب، بل ينبغي أن يُعزَى بالكامل لهم.

البند 7

لكن جميع مَن يؤمنون حقًا، ويُعتَقون ويخلُصون من الخطية والهلاك بواسطة موت المسيح، هم مَدينون بهذا الامتياز فقط لنعمة الله، التي أُعطيت لهم في المسيح منذ الأزل، وليس لأي استحقاق فيهم.

البند 8

لأن هذه كانت مشورة الله الآب السياديّة، وإرادته وقصده شديد الرأفة، أن تمتد الفاعليّة المحييّة والمُخلِّصة للموت الثمين جدًا لابنه إلى جميع المختارين، لمنحهم وحدهم عطية الإيمان الذي يبرِّر، لاقتيادهم بهذا على نحو قاطعٍ إلى الخلاص: أي أن مشيئة الله كانت أن يفتدي المسيح بدم الصليب، الذي به أسَّس العهد الجديد، من كل شعب، وقبيلة، وأمة، ولسان، على نحو فعّال جميع، وفقط أولئك، الذين اختيروا منذ الأزل للخلاص وأعطاهم له الآب؛ حتى يمنحهم الإيمان، الذي اشتراه لهم بموته، مع كافة العطايا الخلاصيّة الأخرى للروح القدس؛ ويطهرهم من جميع الخطايا، سواء الأصليّة أو الفعليّة، وسواء التي ارتُكبت قبل الإيمان أو بعده؛ وبعد أن يحفظهم بأمانة حتى النهاية، يعتقهم أخيرًا من كل عيبٍ أو دنسٍ للتمتُّع بالمجد في محضره إلى الأبد.

البند 9

هذا القصد النابع من المحبة الأبديّة من نحو المختارين قد تحقَّق بفاعليّة منذ بدء العالم وحتى يومنا هذا، وسيظل يتحقق من الآن فصاعدًا، بالرغم من كلِّ مقاومة عقيمة تبديها أبواب الجحيم، حتى يجتمع المختارون معًا في الوقت المعيَّن إلى واحدٍ، ولا يكون هناك افتقار البتة إلى كنيسة، وُضع أساسها بدم المسيح، مكوَّنة من مؤمنين يحبُّونه بثباتٍ، ويخدمونه بأمانةٍ باعتباره مخلِّصهم، الذي كعريس لأجل عروسه، وضع حياته لأجلهم على الصليب، ويعيِّدون بتسبيحاته هنا وطوال الأبدية.

ارجع الى قائمة المحتويات

بعد شرح العقيدة الصحيحة (عن الفداء)، يرفض السنودس ضلالات أولئك الذين يعلِّمون الآتي:

الرفض 1

أن الله الآب قد عيَّن ابنه لموت الصليب دون قضاء مؤكَّد ومحدَّد بأن يخلِّص أحدًا، بحيث تظل الضرورة، والمنفعة، والقيمة لما استحقه المسيح بموته موجودة؛ وبحيث تبقى تامة، وكاملة، وسليمة في جميع أجزائها، حتى لو لم يُطبَّق الفداء المُستحَق في حقيقة الأمر على أيِّ إنسان.

لأن هذا التعليم يؤدي إلى الازدراء بحكمة الآب وباستحقاقات يسوع المسيح، وهو مخالف للكتاب المقدس؛ لأنه هكذا قال مُخلِّصنا: “أَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ، وَأَنَا أَعْرِفُهَا” (يوحنا 10: 15، 27). ويقول النبي إشعياء عن المُخلّص: “إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ” (إشعياء 53: 10). وأخيرًا، يتناقض هذا مع بند قانون الإيمان الذي نؤمن بموجبه بالكنيسة الجامعة المسيحية.

الرفض 2

أنه لم يكن الغرض من موت المسيح هو تأسيس عهد النعمة الجديد بدمه، بل فقط أن يربح للآب الحق في أن يقيم مع الإنسان العهد الذي يريده، سواء عهد النعمة أو عهد الأعمال.

لأن هذا يناقض الكتاب المقدس الذي يُعلّم أن المسيح قد صار هو الضامن والوسيط لعهدٍ أفضل، أي العهد الجديد، وأن الوصية تصير ثابتة بعد الموت. “قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِنًا لِعَهْدٍ أَفْضَلَ” (عبرانيين 7: 22)؛وَلأَجْلِ هذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّونَ ­ إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ ­ يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ؛لأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَوْتى، إِذْ لاَ قُوَّةَ لَهَا الْبَتَّةَ مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا” (عبرانيين 9: 15، 17).

الرفض 3

أن المسيح بترضيته لم يربح الخلاص نفسه لأي إنسان، ولا الإيمان، الذي به يُنتفَع على نحو فعّال بترضية المسيح هذه التي للخلاص؛ بل أنه ربح فقط للآب السلطان أو الرغبة التامة في التعامل مرة أخرى مع الإنسان، وفي وضع شروط جديدة كما يشاء، لكن تعتمد طاعتها على الإرادة الحرة للإنسان، بحيث يمكن إذن إمّا ألا يستوفي أحد هذه الشروط، أو أن يستوفيها الجميع.

لأن هؤلاء ينظرون بازدراءٍ شديدٍ إلى موتِ المسيح، ولا يُقرُّون بأي حالٍ من الأحوال بأهم الثمار أو المزايا التي تُربَح من خلاله، ويخرِجون مرة أخرى من الجحيم الضلالة البيلاجيّة.

الرفض 4

أن عهد النعمة الجديد، الذي قطعه الله الآب مع الإنسان، عن طريق وساطة موت المسيح، لا يتمثَّل في أننا بالإيمان، بقدر قبوله لاستحقاقات المسيح، نتبرَّر أمام الله ونَخلُص؛ بل في حقيقة أن الله، بعدما تراجع عن مطلب الإطاعة الكاملة للإيمان، صار يرى الإيمان نفسه، وإطاعة الإيمان، بالرغم من كونها غير كاملة، على أنها طاعة كاملة للناموس، وبالنعمة صار يعتبرها جديرة بمكافأة الحياة الأبدية.

لأن هذا يناقض الكتاب المقدس الذي يقول: “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ” (رومية 3: 24-25). ينادي هؤلاء، كما نادي سوسينوس (Socinus) الشرير، بنوعٍ جديد وغريب من تبرير الإنسان أمام الله، مخالف لإجماع الكنيسة بأكملها.

الرفض 5

أن جميع البشر قد قُبلوا في حالة المُصالحة وفي نعمة العهد، بحيث لم يعد أحدٌ يستحق الدينونة بسبب الخطية الأصليّة، وأنه لن يدان أحدٌ بسببها، بل قد أُعتِق الجميع من ذنب الخطية الأصليّة.

لأن هذا الرأي يناقض الكتاب المقدس الذي يعلّم أننا بالطبيعة أَبْنَاءَ الْغَضَبِ (أفسس 2: 3).

الرفض 6

استخدام الفرق بين الاستحقاق والانتفاع، بهدف أن يغرسوا في أذهان غير الحكماء وعديمي الخبرة التعليم القائل إن الله من ناحيته يرغب في تطبيق المزايا التي حققها موت المسيح على الجميع بالتساوي؛ ولكن يعتمد الفرق بين مَن يحصلون على غفران الخطايا والحياة الأبدية، ومَن لا يحصلون عليها، على إرادتهم الحرة، التي تُلصِق نفسها بالنعمة المقدَّمة دون استثناء؛ وأن هذا الفرق لا يعتمد على هبة الرحمة الخاصة، التي تعمل بقوة في داخلهم، حتى ينتفعوا دون غيرهم بهذه النعمة.

لأن هؤلاء، بينما هم يزعمون أنهم يعرضون هذه التفرقة بشكل صحيح، يسعون إلى حقن السم القاتل للضلالات البيلاجيّة داخل الناس.

الرفض 7

أن المسيح لم يكن بإمكانه أن يموت، ولم يكن في حاجة إلى أن يموت، بل ولم يمت بالحقيقة لأجل أولئك الذين أحبهم الله بهذا القدر واختارهم للحياة الأبدية، ولم يمت من أجل هؤلاء، بما أن هؤلاء ليسوا في حاجة إلى موت المسيح.

لأنهم يناقضون الرسول، الذي أعلن: “ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” (غلاطية 2: 20)؛ وكذلك أيضًا: “مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ” (رومية 8: 33-34)، أي مات لأجلهم؛ كما يناقضون المخلّص الذي قال: “أَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ” (يوحنا 10: 15)؛ وأيضًا: “هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يوحنا 15: 12-13).

ارجع الى قائمة المحتويات

القسمان الرئيسيان الثالث والرابع من العقيدةعن فساد الإنسان، ورجوعه وإلى الله، وكيفية حدوث ذلك

البند 1

جُبِلَ الإنسان في الأصل على صورة الله. وكان إدراكه مزيّنًا بمعرفة حقيقيّة وصحيحة عن خالقه وعن الأمور الروحيّة؛ كما كان قلبه وإرادته مستقيمين، وجميع عواطفه نقية؛ وكان الإنسان ككلٍّ مقدَّسًا؛ ولكن بتمرّده على الله بتحريضٍ من الشيطان، وبإساءة استخدامه لحرية إرادته، خسر هذه العطايا الفائقة؛ وفي المقابل جلب على نفسه عمى الذهن، والظلمة الرهيبة، والبُطل، وفساد التمييز؛ وصار شريرًا، ومتمردًا، ومتصلِّب القلب والإرادة، ونجسًا في عواطفه.

البند 2

أنجب الإنسان بعد السقوط أبناءً كشبهه. فقد أثمر الأصل الفاسد ذريّة فاسدة. وبهذا، استمد كل نسل آدم، باستثناء المسيح وحده، الفساد من أبيهم الأصلي، لا بفعل المحاكاة، كما أكّد البيلاجيون القدامى، بل بفعل تكاثر الطبيعة الفاسدة.

البند 3

ولذلك، يُحبَل بجميع البشر بالخطية، وهم بالطبيعة أبناء الغضب، وعاجزون عن فعل أي صلاح للخلاص، وميّالون إلى الشر، وأموات في الخطايا، وعبيدٌ لها. ودون نعمة الروح القدس المُجدِّدة، لن يستطيعوا ولن يرغبوا في الرجوع إلى الله، أو في إصلاح فساد طبيعتهم، أو في ترغيب أنفسهم في الإصلاح.

البند 4

ومع ذلك، ظلت بداخل الإنسان منذ السقوط ومضات من النور الطبيعي، بها يحتفظ ببعض المعرفة عن الله، وعن الأمور الطبيعيّة، وعن الاختلافات بين الخير والشر؛ وبها يُظهِر بعض الاكتراث بالفضيلة، وبالنظام الجيّد في المجتمع، وبالحفاظ على سلوك خارجي منضبط. لكن نور الطبيعة هذا غير كافٍ على الإطلاق كي يقتاد الإنسان إلى معرفة الله التي للخلاص، وإلى الرجوع الحقيقي إليه؛ حتى أنه عاجز أيضًا عن استخدامه بشكلٍ صحيح حتى في الشؤون الطبيعيّة والحضاريّة. وعلاوة على ذلك، يلوِّث الإنسان هذا النور تمامًا بطرق متنوِّعة، ويحجزه بالإثم؛ وبفعله هذا يصير بلا عذر أمام الله.

البند 5

ينبغي أن نفكِّر بالطريقة نفسها في ناموس الوصايا العشر، التي أعطاها الله لشعبه الخاص اليهود بيد موسى. فعلى الرغم من أنها تُظهِر ضخامة الخطية، وتقنع الإنسان أكثر فأكثر بذلك، لكنها إذ لا توجِّهه إلى علاج أو تمده بقوة تخلِّصه من بؤسه، وإذ تترك المتعدِّي تحت اللعنة لكونها ضعيفة بالجسد، لا يمكن للإنسان أن ينال بواسطة هذا الناموس النعمة التي للخلاص.

البند 6

إذن، ما عجز نور الطبيعة أو الناموس عن فعله، هذا يحققه الله بعمل الروح القدس، بواسطة الكلمة أو خدمة المصالحة، التي هي الأخبار السارة عن المسيّا، والتي بواسطتها سُر الله أن يخلِّص مَنْ يؤمنون، سواء في ظل العهد القديم، أو في ظل العهد الجديد.

البند 7

لم يُعلِن الله سرَّ مشيئته هذا سوى لقليلين في ظل العهد القديم؛ لكنه في ظل العهد الجديد (حيث تلاشى التمييز بين الشعوب المختلفة) يعلن ذاته للكثيرين دون أي تمييز بين البشر. يجب ألا يُعزَى سبب هذا التدبير إلى علو شأن أمة ما على الأخرى، أو إلى استخدامها لنور الطبيعة بصورة أفضل؛ لكنَّ هذا ناتج بالكامل عن مسرة الله السياديّة ومحبته غير المستحَقة. ومن ثَمَّ، فإن مَنْ يُعطوا تلك البركة العظيمة والسخيّة إلى هذا الحد، خلافًا لما يستحقونه، أو بالأحرى على الرغم من نقائصهم، ملزَمون بأن يعبِّروا عن امتنانهم لأجلها بقلوب متّضعة وشاكرة؛ ونظير الرسول، أن يحمدوا صرامة وعدالة أحكام الله على الآخرين، الذين لم يعطوا هذه النعمة، وليس أن ينقّبوا بفضول فيها.

البند 8

إن الكثيرين الذين يُدعون بواسطة بشارة الإنجيل يدعَون على نحو حقيقي وجاد. فقد أعلن اللَّهَ بكل جديّة وصدق فِي كَلِمَتِهِ ما هو مقبول لديه، أن جميع مَن يُدعَون لا بد أن يستجيبوا للدعوة. وعلاوة على ذلك، هو يَعِد جديًا بالحياة الأبدية والراحة لكل من يُقبِل إليه ويؤمن به.

البند 9

إن رفض أولئك الذين يُدعَون بواسطة خدمة الكلمة أن يأتوا إلى الله ويرجعوا إليه لا يعود إلى أي خطأ في بشارة الإنجيل، ولا في المسيح المُقدَّم فيها، ولا في الله الذي يدعو البشر بواسطة بشارة الإنجيل ويمنحهم عطايا متنوعة. بل يكمُن الخطأ في هؤلاء أنفسهم؛ فإن البعض حين يُدعَون يرفضون كلمة الحياة، دون أدنى اكتراث بالخطر الذي يهدّدهم؛ وآخرون، مع أنهم يقبلون الكلمة، لكنها لا تترك انطباعًا يدوم في قلوبهم؛ ومن ثَمَّ، فإن فرحهم، النابع فقط من إيمان وقتي، سرعان ما يتبدّد، فيرتدون؛ بينما آخرون يخنقون بذار الكلمة بالهموم المُربكة وبملذّات هذا العالم، فلا يصنعون ثمارًا. هذا هو ما علّمه مخلِّصنا في مثل الزارع (متى 13).

البند 10

ولكن ينبغي ألا تُعزَى إطاعة آخرين للدعوة التي تقدَّم لهم بواسطة بشارة الإنجيل ورجوعهم إلى الله إلى ممارستهم السليمة لإرادتهم الحرة، التي بها يميّز أحدهم نفسه عن الآخرين، الذين تقدَّم لهم على حد السواء نعمةً كافية للإيمان والرجوع إلى الله كما تنادي هرطقة بيلاجيوس المتغطرسة؛ ولكن يجب أن يُعزَى هذا بالكامل إلى الله، الذي كما اختار خاصته منذ الأزل في المسيح، هكذا أيضًا يمنحهم إيمانًا وتوبة، وينقذهم من سلطان الظلمة، وينقلهم إلى ملكوت ابنه، حتى يخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب؛ وحتى لا يفتخروا بأنفسهم، بل بالرب بحسب شهادة الرسل في مواضع عديدة.

البند 11

لكن يتمِّم الله مسرته في المختارين أو ينشئ فيهم تغييرًا حقيقيًّا، ليس فقط بأن يرسل لهم بشارة الإنجيل عن طريق الكرازة الخارجية وبأن ينير أذهانهم بقوة بواسطة روحه القدوس، حتى يتمكّنوا من إدراك وتمييز ما لروح الله؛ ولكنه يجتاح، بواسطة فاعليّة الروح المُجدّد ذاته، أعمق خبايا الإنسان؛ فيفتح ما هو مغلَق، ويُليّن القلب المتحجِّر، ويختن ما هو أغلف، ويغرس صفات جديدة داخل الإرادة التي يحييها، مع أنها كانت حتى ذلك الحين مائتة؛ محولًا إيّاها من إرادة شريرة، وعاصية، ومعاندة، إلى إرادة صالحة، وطائعة، ومرنة؛ ومحرّكًا ومقويًا إيّاها، حتى تصنع، مثل شجرة جيدة، ثمارًا من الأعمال الصالحة.

البند 12

وإن هذا هو التجديد المُعلن بقوة في الكتاب المقدس، والذي يسمَّى الخليقة الجديدة: هو إقامة من الأموات، وإحياء، يجريه الله فينا دون أيّة مساعدة منا. لكن لا يتحقق هذا بأي حال من الأحوال فقط من خلال الكرازة الخارجية ببشارة الإنجيل، أو الإقناع الأخلاقي، أو أيّة طريقة أخرى، بحيث بعد أن يؤدي الله دوره، يظل في قدرة الإنسان أن يتجدّد أو لا، وأن يرجع إلى الله أو يبقى في عدم إيمانه؛ ولكن من الواضح أنه عمل فوق طبيعي، وشديد القوة، وفي الآن ذاته مبهج إلى أقصى حد، ومذهل، وغامض، ويفوق الوصف؛ لا يقل في فاعليّته عن الخلق أو عن الإقامة من الأموات، كما يعلن الكتاب المقدس الموحَى به من صانع هذا العمل؛ حتى أن جميع مَن يعمل الله في قلوبهم بهذه الطريقة المذهلة، يتجدَّدون قطعًا، وعلى نحو أكيد، وفعّال، ويؤمنون حقًا. وعندئذ، هذه الإرادة التي تتجدّد نتيجة لهذا لا تُدفَع أو تتأثر بالله فحسب، بل نتيجة لهذا التأثير، تصير هي نفسها نشطة. ولهذا السبب، نصيب حين نقول إن الإنسان نفسه هو الذي يؤمن ويتوب، بفضل نواله تلك النعمة.

البند 13

لا يستطيع المؤمنون أن يدركوا بالكامل في هذه الحياة كيفيّة حدوث هذه العمليّة. لكن على الرغم من ذلك، هم قانعون بمعرفتهم واختبارهم أنهم يحصلون بواسطة نعمة الله هذه على إمكانية أن يؤمنوا بقلبهم، وأن يحبوا مُخلّصهم.

البند 14

لذلك ينبغي اعتبار الإيمان عطية الله، ليس لأنه يقدَّم من الله للإنسان، كي يقبله أو يرفضه بحسب رغبته، بل لأنه بالحقيقة يُمنح، ويُنفَخ، ويُغرَس بداخله؛ بل وليس لأن الله يمنح القوة أو القدرة على الإيمان، ثم ينتظر من الإنسان أن يوافق بمحض إرادته على شروط الخلاص، ويؤمن فعليًّا بالمسيح، بل لأن العامل في الإنسان أن يريد وأن يعمل، بل والذي يعمل الكلَّ في الكلِّ، هو الذي ينشئ كلًا من الإرادة كي يؤمن وفعل الإيمان أيضًا.

البند 15

ليس الله مُلزمًا بمنح هذه النعمة لأحدٍ؛ إذ كيف يمكن أن يكون مَدينًا للإنسان، الذي لم يسبق فأعطاه شيئًا كأساسٍ لهذه المكافأة؟ بل والذي لا يملك في ذاته سوى الخطية والزيف؟ إذن، مَنْ يصير متلقّيًا لهذه النعمة، يدين بالامتنان الأبدي لله، ويقدم له الشكر إلى الأبد. وكل مَنْ لا يصير شريكًا في هذه النعمة، فهو إمّا غير مكترث على الإطلاق بهذه العطايا الروحيّة، وراضٍ عن حاله، أو هو لا يخشى الخطر الذي يهدّده، ويفتخر باطلًا بامتلاك ما ليس له. من جهة أولئك الذين يعترفون جهرًا بإيمانهم، ثم يسلكون بطريقة عادية، نحن ملزَمون، بحسب مثال الرسول، بالحُكم عليهم والتحدث عنهم بأفضل طريقة، لأن خفايا القلب مجهولة لدينا. أمّا من جهة الآخرين الذين لم يُدعَوا بعد، فإن واجبنا هو أن نصلي لأجلهم إلى الله، الذي يدعو الأشياء غير الموجودة وكأنها موجودة. لكن علينا بأي حال من الأحوال ألا نتعامل معهم بتعالٍ، كما لو أننا نحن مَن جعلنا أنفسنا مختلفين.

البند 16

لكن كما لم يتوقف الإنسان بالسقوط عن أن يكون مخلوقًا لديه الفهم والإرادة، وكما لم تحرمه الخطية التي اجتاحت كل الجنس البشري من الطبيعة البشرية، بل جلبت عليه الفساد والموت الروحي؛ هكذا أيضًا لا تتعامل نعمة التجديد هذه مع البشر وكأنهم مجرد أشياء أو أحجار عديمة الحس، ولا تسلب منهم إرادتهم وخصائصها، أو تقتحمها رغمًا عنها؛ ولكنها في المقابل تحييها روحيًّا، وتشفيها، وتقوِّمها، وفي الآن ذاته تميلها بكل رفق وفاعلية؛ حتى حيث ساد فيما سبق التمرّد الجسدي والمقاومة، تبدأ طاعة روحيّة متأهّبة وصادقة في التملُّك؛ وفي هذا يتمثّل استردادنا الحقيقي والروحي وحرية إرادتنا. ولهذا السبب، لولا ذاك الذي هو المصدر البديع لكل عمل صالح قد أُجري فينا، لما تحلَّى الإنسان بأي رجاء في التعافي من سقوطه بمحض إرادته، التي حين أساء استخدامها، وهو في حالة البراءة، أغرق نفسه في الهلاك.

البند 17

كما أن العمل القدير الذي يُجريه الله، والذي به يطيل من حياتنا الطبيعية ويدعمها، لا يستثني، بل يستلزم استخدام وسائط، بها اختار الله في رحمته وصلاحه غير المحدودين أن يمارس تأثيره، هكذا أيضًا ذلك العمل فوق الطبيعي سالف الذكر الذي يجريه الله، والذي بواسطته نتجدَّد، لا يستثني أو يمنع بأي حال من الأحوال استخدام بشارة الإنجيل، الذي عيَّنه الله كلي الحكمة ليكون بذرة التجديد وطعام النفس. ولهذا السبب، كما علَّم الرسل والمعلِّمون الذين تلوهم الشعب بمخافة الرب عن نعمة الله هذه، لمجده، وللحط من أي افتخار أو كبرياء، بينما لم يهملوا في الآن ذاته الحفاظ عليهم عن طريق الوصايا المقدَّسة للإنجيل في ممارسة للكلمة، والفرائض المقدسة، والتأديب؛ هكذا أيضًا حتى يومنا هذا، حاشا لأيٍّ من المعلمين أو المتعلمين أن يتجرأوا على أن يجرِّبوا الله في الكنيسة مفرقين ما جمعه بحسب مسرته في صلة وثيقة للغاية. فإن النعمة تُمنَح بواسطة التحريضات؛ وكلّما ازددنا تأهّبًا وسرعة في أداء واجباتنا، ازداد عادةً وضوح عمل بركة الله هذه فينا، وتَقدَّمَ عمله على نحوٍ مباشر بدرجةٍ أكبر؛ ذاك الذي يستحق وحده وإلى الأبد كلَّ المجد سواء لأجل الوسائط، أو لأجل نتائجها التي للخلاص وفاعليتها. آمين.

ارجع الى قائمة المحتويات

بعد شرح العقيدة الصحيحة (عن الفساد والرجوع إلى الله)، يرفض السنودس ضلالات مَن يعلِّمون الآتي:

الرفض 1

أنه من الخطأ أن نقول إن الخطية الأصليّة كافية في حد ذاتها لإدانة كل الجنس البشري أو لاستحقاق عقوبة زمنيّة وأبديّة.

لأن هؤلاء يناقضون قول الرسول: “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ” (رومية 5: 12)؛ وأيضًا: “لأَنَّ الْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ” (رومية 5: 16)؛ وأيضًا: “لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ” (رومية 6: 23).

الرفض 2

أن المواهب الروحيّة أو الصفات والفضائل الحميدة، مثل الصلاح، والقداسة، والبر، لم يكن ممكنًا أن تنتمي إلى إرادة الإنسان حين خُلق أولًا، ومن ثمَّ، لا يمكن أن تكون قد انفصلت عنها في السقوط.

لأن هذا مخالف لوصف صورة الله الذي قدَّمه الرسول في أفسس 4: 24، حيث صرَّح بأنها تتمثل في البر والقداسة، اللذين ينتميان دون شك إلى الإرادة.

الرفض 3

أنه في الموت الروحي، لم تنفصل المواهب الروحيّة عن إرادة الإنسان، بما أن الإرادة في حد ذاتها لم تفسد قط، بل فقط أُعيقت عن طريق ظلمة الإدراك وتقلُّب العواطف؛ وأنه عند إزالة تلك المعوقات، يمكن للإرادة حينئذ أن تشغِّل إمكانياتها الطبيعيّة؛ أي أن الإرادة قادرة من ذاتها على أن تريد وتختار، أو على ألا تريد وألا تختار، كل صلاح قد يُعرَض عليها.

هذا ابتداع وضلال، يميل إلى الإعلاء من شأن إمكانيات حريّة الإرادة، على خلاف تصريح النبي: “اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟” (إرميا 17: 9)؛ وتصريح الرسول: “الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ (أبناء المعصية) فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ” (أفسس 2: 3).

الرفض 4

أن الإنسان غير المُجدَّد ليس ميتًا تمامًا وحقًا في الخطايا، ولا مُعدَمًا من أيّة قدرة على فعل الصلاح الروحي، بل هو يستطيع مع ذلك أن يجوع ويعطش إلى البر والحياة، وأن يقدّم ذبيحة روح منسحقة ومنكسرة، ترضي الله.

لأن هؤلاء يناقضون الشهادة الصريحة للكتاب المقدس: “وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا؛وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا” (أفسس 2: 1، 5)؛كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ” (تكوين 6: 5)؛لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ” (تكوين 8: 21).

علاوة على ذلك، فإن الجوع والعطش إلى التحرُّر من الشقاء وإلى الحياة، وتقديم ذبيحة روح منكسرة إلى الله، هي أشياء تميِّز المُجدَّدين، والذين يُدعون مطوَّبين. “قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي؛حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ الْبِرِّ، مُحْرَقَةٍ وَتَقْدِمَةٍ تَامَّةٍ. حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولاً” (مزمور 51: 10، 19)؛طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ” (متى 5: 6).

الرفض 5

أن الإنسان الفاسد والطبيعي يستطيع بشكلٍ جيدٍ للغاية استخدام النعمة العامة (التي بها يفهم نور الطبيعة)، أو المواهب التي لا زالت متبقية لديه بعد السقوط، حتى أنه يستطيع أن يحصل تدريجيًّا بالاستخدام السليم لها على نعمة أعظم، أي النعمة التي للخلاص، والخلاص نفسه. وأن الله بهذه الطريقة يُظهِر من جانبه استعدادًا لإعلان المسيح لجميع البشر، بما أنه يقدِّم للجميع على نحو كافٍ وفعّال الوسائط اللازمة للرجوع إلى الله.

لأن اختبار جميع العصور والكتاب المقدس يشهدان على عدم صحة هذا. “يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. لَمْ يَصْنَعْ هكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ، وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا” (مزمور 147: 19، 20)؛الَّذِي فِي الأَجْيَالِ الْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ” (أعمال الرسل 14: 16)؛وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا (بولس ورفقاؤه) فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ” (أعمال الرسل 16: 6، 7).

الرفض 6

أنه في الرجوع الحقيقي للإنسان إلى الله، لا يغرس الله أيّة صفات أو إمكانيّات أو عطايا جديدة داخل الإرادة، ومن ثَمَّ فإن الإيمان الذي به نرجع إلى الله أولًا، والذي بسببه نُدعَى مؤمنين، ليس صفة أو عطية يغرسها الله، بل هو فقط فعل بشري؛ ولا يمكن القول إنه عطية، عدا فقط فيما يتعلق بالقدرة على بلوغ هذا الإيمان.

لأنهم بهذا يناقضون الكتاب المقدس الذي يقول إن الله يغرس صفات جديدة من إيمان، وطاعة، ووعي بمحبته داخل قلوبنا: “أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ” (إرميا 31: 33)؛أَنِّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ، وَسُيُولاً عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرِّيَّتِكَ” (إشعياء 44: 3)؛لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رومية 5: 5). يتناقض هذا أيضًا مع الممارسة المستمرة للكنيسة، التي تصلي بفم النبي قائلة: “تَوِّبْنِي فَأَتُوبَ“(إرميا 31: 18).

الرفض 7

أن النعمة التي بواسطتها نرجع إلى الله تقتصر فقط على نُصح رقيق، وهذه (كما يقول آخرون عنها) هي أسمى طريقة لتغيير الإنسان؛ وأن هذه الطريقة، التي تتمثّل في تقديم النصح، هي الأكثر انسجامًا مع طبيعة الإنسان؛ وأنه لا يوجد سبب يجعل هذه النعمة الناصحة وحدها غير كافية كي يصير الإنسان الطبيعي إنسانًا روحيًّا، في الواقع، لا يُنتِج الله اتفاق الإرادة إلا بواسطة طريقة النصح هذه؛ وأن قوة العمل الإلهي، التي بها يتفوّق على عمل إبليس، تكمُن في كون الله يعِد بخيرات أبدية، بينما لا يعد إبليس سوى بخيرات زمنيّة وقتيّة.

ولكن هذا بيلاجي الطابع تمامًا، ومخالف لكل الكتاب المقدس الذي، إلى جانب هذه الطريقة، يعلِّم عن طريقة أخرى إلهيّة وأكثر قوة، يعمل بها الروح القدس في تغيير الإنسان، كما هو الحال في حزقيال: “وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ” (حزقيال 36: 26).

الرفض 8

أن الله في تجديد الإنسان لا يستخدم إمكانيات قدرته الكليّة كي يجعل إرادة الإنسان تميل بقوة وعلى نحوٍ قاطع إلى الإيمان والرجوع إلى الله؛ بل أنه بعد تتميم جميع أعمال النعمة، التي يستخدمها الله لتغيير الإنسان، يمكن للإنسان مع ذلك أن يقاوم الله والروح القدس في حين ينوي الله تجديد الإنسان ويرغب في ذلك، بل وكثيرًا ما يقاوم الإنسانُ بالفعل حتى أنه يستطيع أن يمنع تجديده تمامًا؛ ومن ثَمَّ لا يزال في قدرة الإنسان أن يتجدَّد أو لا.

لأن هذا لا يقل عن كونه إنكارًا لكل فاعليّة نعمة الله في تغييرنا، وإخضاعًا لعمل الله القدير لإرادة الإنسان، الشيء الذي يخالف تعاليم الرسل التي تقول: “نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ” (أفسس 1: 19)؛اللهيُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ الصَّلاَحِ وَعَمَلَ الإِيمَانِ بِقُوَّةٍ” (2 تسالونيكي 1: 11)؛كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى” (2 بطرس 1: 3).

الرفض 9

أن النعمة وحرية الإرادة هما سببان جزئيان، يُحدِثان معًا بداية الرجوع إلى الله؛ وأن عمل النعمة لا يسبق في الترتيب عمل الإرادة؛ أي أن الله لا يساعد إرادة الإنسان على نحو فعّال كي يرجع إلى الله، إلا حين تتحرك إرادة الإنسان وتعزم على فعل هذا.

لأن الكنيسة القديمة قد أدانت منذ زمان طويل تعليم البيلاجيين هذا بحسب كلمات الرسول: “فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ ِللهِ الَّذِي يَرْحَمُ” (رومية 9: 16). وكذلك: “أَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟” (1 كورنثوس 4: 7)؛ وأيضًا: “لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ” (فيلبي 2: 13).

ارجع الى قائمة المحتويات

القسم الرئيسي الخامس من العقيدةعن مثابرة القديسين

البند 1

إن الذين يدعوهم الله، بحسب قصده، إلى شركة ابنه، ربنا يسوع المسيح، ويجدِّدهم بالروح القدس، هو يعتقهم أيضًا من سيادة وعبودية الخطية في هذه الحياة؛ ولكن ليس من جسد الخطية وضعفات الجسد تمامًا، طالما هم في هذا العالم.

البند 2

بسبب هذا، تظهر خطايا الضعف اليومية، وبسبب هذا تلتصق العيوب بأفضل أعمال القديسين، مما يمدُّهم بسبب دائم للاتضاع أمام الله، والإسراع باللجوء إلى المسيح مصلوبًا، لأجل إماتة الجسد أكثر فأكثر بروح الصلاة، وبالتدريبات المقدَّسة للتقوى، ولأجل السعي نحو هدف الكمال، إلى أن يُنقَذوا في النهاية من جسد هذا الموت، فيؤتَى بهم كي يملكوا مع حمل الله في السماء.

البند 3

وبسبب هذه البقايا من الخطية الساكنة، وإغراءات الخطية والعالم، لا يمكن لأولئك الذين رجعوا إلى الله أن يثابروا في حالة النعمة لو تُرِكوا لقوتهم الشخصية. لكن الله أمين، الذي بعدما يمنحهم النعمة، يمكِّنهم برحمته ويثبِّتهم بقوة فيها، حتى النهاية.

البند 4

مع أن ضعف الجسد لا يمكن أن يغلب قوة الله، الذي يُثبِّت ويحفظ المؤمنين الحقيقيين في حالة النعمة، إلا أن المؤمنين لا يتأثرون وينقادون دائمًا بروح الله، وبأفعال معينة ينحرفون في شرٍّ عن إرشاد النعمة الإلهيّة، وينجذبون إلى شهوات الجسد، ويمتثلون لها؛ ولذلك، لا بد أن يظلوا مواظبين على السهر والصلاة لئلا يدخلوا في تجربة. وحين يهملون هذا، لن يكونوا فقط عرضة أن يجتذبهم إبليس والعالم والجسد إلى ارتكاب خطايا ضخمة وشنيعة، بل في بعض الأحيان يسقطون بالفعل في هذه الشرور بسماح عادل من الله. نرى هذا في وصف الكتاب المقدس للسقوط المؤسف لداود، وبطرس، وقديسين آخرين.

البند 5

ولكنهم بهذه الخطايا الضخمة يهينون الله إهانة شديدة، ويجلبون على أنفسهم شعورًا مميتًا بالذنب، ويُحزنون الروح القدس، ويعيقون ممارسة الإيمان، ويجرحون ضمائرهم على نحوٍ مؤسف، وفي بعض الأحيان يفقدون شعورهم برضا الله لبعض الوقت، إلى أن يعودوا إلى الطريق الصحيح للتوبة الجادة، فيشرق نور وجه الله الأبوي مرة أخرى عليهم.

البند 6

لكن الله، الغني في الرحمة، وبحسب قصده غير المتغيِّر في الاختيار، لا ينزع الروح القدس من شعبه تمامًا، حتى في خضم سقطاتهم المؤسفة؛ كما لا يسمح لهم بأن يتمادوا كثيرًا لدرجة فقدان نعمة التبني وخسارة حالة التبرير؛ أو بأن يخطئوا الخطية التي للموت؛ كما لا يسمح بأن يُترَكوا تمامًا، ويغرِقوا أنفسهم في الهلاك الأبدي.

البند 7

لأنه في المقام الأول، في خضم هذه السقطات، يحفظ بداخلهم بذرة التجديد عديمة الفساد من أن تفنى أو تُفقَد تمامًا؛ ومرة أخرى، بواسطة كلمته وروحه، يجدّدهم على نحو أكيد وفعّال للتوبة، ولحزن صادق وبحسب مشيئة الله على خطاياهم، حتى يطلبوا الغفران وينالوه بدم الوسيط، فيختبروا مرة أخرى رضا إله مُصالَح، وبالإيمان يحمدوا مراحمه، ومن ذلك الحين فصاعدًا يتمِّمون بأكثر جدية خلاصهم في خوف ورعدة.

البند 8

ومن ثَمَّ، فإن عدم سقوطهم كليًّا من الإيمان والنعمة، وعدم استمرارهم وهلاكهم بالتمام في سقطاتهم ليس ناتجًا عن استحقاقاتهم أو قوتهم الشخصية، بل عن رحمة الله المجانيّة؛ فمن جانبهم، هذا الهلاك ليس ممكنًا فحسب، بل سيحدث دون شك؛ بينما من جانب الله، هذا أمر مستحيل تمامًا، لأن مشورته لا يمكن أن تتغيّر، ووعده لا يمكن أن يسقط؛ كما لا يمكن نقض الدعوة التي بحسب قصده، أو إلغاء فاعليّة استحقاق المسيح، وشفاعته، وحفظه؛ أو إبطال أو طمس ختم الروح القدس.

البند 9

من الممكن بل وبالحقيقة ينال المؤمنون الحقيقيون، بحسب مقدار إيمانهم، يقينًا في حفظ المختارين للخلاص وفي مثابرتهم في الإيمان، الذي به يصلون إلى القناعة الأكيدة بأنهم سيظلون أعضاء حقيقيين وأحياء في الكنيسة إلى الأبد؛ وبأنهم يختبرون غفران الخطايا، وسيرثون في النهاية الحياة الأبدية.

البند 10

لكنَّ هذا اليقين لا يأتي عن طريق أي إعلان خاص مخالف لكلمة الله أو مستقل عنها؛ بل ينبع من الإيمان بوعود الله، التي أعلنها بكثرة في كلمته لتعزيتنا؛ ومن شهادة الروح القدس الذي يشهد لأرواحنا بأننا أبناء الله وورثته (رومية 8: 16)؛ وأخيرًا، من الرغبة الجادة والمقدَّسة في الحفاظ على ضمير صالح وفي صُنع أعمال صالحة. وإن حُرم مختارو الله من هذه التعزية الراسخة بأنهم حتمًا سينالون الغلبة في النهاية ومن هذا العربون اليقيني للمجد الأبدي، سيكونون أشقى جميع الناس.

البند 11

وعلاوة على ذلك، يشهد الكتاب المقدس أن المؤمنين في هذه الحياة ينبغي أن يصارعوا مع العديد من الشكوك الجسديّة؛ وأنهم في خضم تجاربهم المحزنة لا يشعرون دائمًا باليقين التام للإيمان وبيقينية المثابرة. ولكن الله، الذي هو أبو كل تعزية، لا يدعهم يُجرَّبون فوق ما يستطيعون، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ، ليستطيعوا أن يحتملوا (1 كورنثوس 10: 13)، وبالروح القدس يُنعِش فيهم مرة أخرى اليقين المعزِّي في المثابرة.

البند 12

إلا أنَّ هذا اليقين في المثابرة بعيدٌ كل البعد عن كونه يُثير داخل المؤمنين روح الكبرياء، أو يمنحهم شعورًا جسديًّا بالأمان؛ بل على النقيض، هذا اليقين هو المصدر الحقيقي للاتضاع، وللتوقير البنوي، وللتقوى الحقيقية، وللصبر في كل ضيق، وللصلوات الحارة، وللثبات في الألم، وفي الإقرار بالحق، وللفرح الراسخ بالله؛ حتى أن التأمل في هذا الامتياز لا بد أن يكون بمثابة حافزٍ على الممارسة الجادة والمستمرة للشكر والأعمال الصالحة، كما يتضح من شهادات الكتاب المقدس ومن نماذج القديسين.

البند 13

أيضًا اليقين المتجدّد في المثابرة لا يؤدي لدى مَن يتعافون من الزلل إلى الاستباحة أو إهمال التقوى؛ لكنه يجعلهم أكثر اهتمامًا وحرصًا على المواصلة في طرق الرب، التي عيَّن أن مَن يسلكون فيها يحتفظون بيقين في المثابرة، لئلا إن أساؤوا استخدام لطف الله الأبوي، يحجب عنهم وجهه الكريم، الذي النظر إليه بالنسبة للأتقياء أفضل من الحياة، واحتجابه عنهم أمَرُّ مِنَ الْمَوتِ؛ ونتيجة لهذا يَسقطون في عذابات للضمير أشد إيلامًا.

البند 14

وكما سُر الله أن يبدأ فينا عمل النعمة هذا بواسطة الكرازة ببشارة الإنجيل، هكذا أيضًا هو يحفظه، ويديمه، ويكمِّله بواسطة الاستماع إلى كلمته وقراءتها، والتأمل فيها، وبواسطة التحريضات، والتهديدات، والوعود الآتية منها؛ وكذلك عن طريق استخدام الفرائض المقدسة.

البند 15

إن الذهن الجسدي عاجز عن إدراك عقيدة مثابرة القديسين أو اليقين النابع منها، تلك العقيدة التي أعلنها الله بكثرة في كلمته، لمجد اسمه، ولتعزية النفوس التقية، والتي يطبعها على قلوب الأمناء. يمقت الشيطان هذه العقيدة؛ ويستهزئ العالم بها؛ ويسيء الجهّال والمراؤون استخدامها، ويعارضها الهراطقة؛ لكن لطالما أحبتها عروس المسيح من كل قلبها ودافعت عنها باستمرار باعتبارها كنزًا لا يُقدَّر بثمنٍ؛ وإن الله، الذي لا يمكن أن تغلبه أيّة مشورة أو قوة، سوف يحفزها على مواصلة هذا السلوك حتى النهاية. لهذا الإله الواحد، الآب، والابن، والروح القدس، الكرامة والمجد إلى الأبد. آمين.

ارجع الى قائمة المحتويات

بعد شرح العقيدة الصحيحة (عن المثابرة)، يرفض السنودس ضلالات من يعلِّمون الآتي:

الرفض 1

أن مثابرة المؤمنين الحقيقيين ليست ناتجة عن الاختيار وليست عطية من الله ربحها موت المسيح، بل هي شرطٌ من شروط العهد الجديد، على الإنسان (كما يقولون) أن يستوفيه بإرادته الحرة قبل اختياره القاطع وتبريره.

لأن الكتاب المقدس يشهد أن هذه المثابرة نابعة من الاختيار، وأنها تُعطَى للمختارين بفضل موت المسيح، وقيامته وشفاعته: “وَلكِنِ الْمُخْتَارُونَ نَالُوهُ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَتَقَسَّوْا” (رومية 11: 7)؛ وكذلك: “اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟ مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟” (رومية 8: 32-35).

الرفض 2

أن الله حقًا يمد المؤمن بالإمكانيات الكافية للمثابرة وهو دائمًا مستعد للحفاظ على هذه الإمكانيات فيه، فقط إن أدَّى واجبه؛ ولكن حتى مع استنفاد جميع الأشياء اللازمة للمثابرة في الإيمان والتي يستخدمها الله لحفظ الإيمان، يظل الأمر دائمًا متوقفًا على إرادة الإنسان إن كانت ستشاء أن تثابر أم لا.

لأن هذه الفكرة تحوي فكرًا بيلاجيًّا صريحًا، وفي حين أنها قد تجعل البشر أحرارًا، لكنها تجعلهم يسلبون الله مجده، خلافًا للاتفاق العام للعقيدة الإنجيلية، الذي ينتزع من الإنسان كلَّ مدعاة للافتخار وينسب كل المدح لأجل هذا الإحسان إلى نعمة الله وحدها؛ وخلافًا لقول الرسول إن الله هوالَّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أَيْضًا إِلَى النِّهَايَةِ بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (1 كورنثوس 1: 8).

الرفض 3

أن سقوط المؤمنين والمجدَّدين الحقيقيين كليًّا ونهائيًّا من الإيمان الذي للتبرير وكذلك من النعمة والخلاص، ليس أمرًا ممكنًا فحسب، لكنهم بالحقيقة كثيرًا ما يسقطون بالفعل من هذه الحالة ويهلكون إلى الأبد.

لأن هذا الفكر يجعل النعمة، والتبرير، والتجديد، والحفظ المستمر بواسطة المسيح أشياء عديمة القوة والمفعول، على خلاف الكلمات الصريحة للرسول بولس: “وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ!” (رومية 5: 8، 9)؛ وعلى خلاف قول الرسول يوحنا: “كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ” (1 يوحنا 3: 9)؛ وأيضًا على خلاف كلمات يسوع المسيح: “وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي” (يوحنا 10: 28، 29).

الرفض 4

أن المؤمنين والمجدَّدين الحقيقيين يمكنهم أن يخطئوا الخطية التي للموت أو الخطية ضد الروح القدس.

بما أن الرسول يوحنا نفسه، بعد أن تحدَّث في الفصل الخامس من رسالته الأولى، وفي العددين 16 و17، عن أولئك الذين يخطئون للموت، ناهيًا عن الصلاة من أجلهم، أضاف على الفور في العدد 18: “نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ لاَ يُخْطِئُ (بمعنى خطية من هذا النوع)، بَلِ الْمَوْلُودُ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَالشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ” (1 يوحنا 5: 18).

الرفض 5

أنه بدون إعلان خاص لا يمكننا في هذه الحياة أن نتحلَّى باليقين للمثابرة في المستقبل.

لأن بهذا التعليم يُسلَب المؤمنون الحقيقيون من التعزية الأكيدة في هذه الحياة وتُدخَل الشكوك البابويّة مرة أخرى إلى الكنيسة، في حين يستخلص الكتاب المقدس باستمرار هذا اليقين، لا من إعلان خاص أو فائق للطبيعة، بل من العلامات التي تميِّز أبناء الله ومن وعود الله الثابتة. يقول الرسول بولس على وجه الخصوص: “وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رومية 8: 39). ويقول يوحنا: “وَمَنْ يَحْفَظْ وَصَايَاهُ يَثْبُتْ فِيهِ وَهُوَ فِيهِ. وَبِهذَا نَعْرِفُ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِينَا: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أَعْطَانَا” (1 يوحنا 3: 24).

الرفض 6

أن التعليم عن يقين المثابرة والخلاص هو بحكم طبيعته سببٌ للتراخي وأنه ضار بالتقوى، والأخلاق الحميدة، والصلاة، وغيرها من الممارسات المقدسة، في حين أن التشكّك على النقيض هو أمر جدير بالثناء.

لأن هؤلاء يُظهِرون أنهم يجهلون قوة النعمة الإلهيّة وعمل سُكنى الروح القدس، ويناقضون الرسول يوحنا، الذي يعلِّم النقيض بكلمات صريحة في رسالته الأولى: “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هذَا الرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ” (1 يوحنا 3: 2-3). بالإضافة إلى ذلك، هذا يتناقض مع مثال القديسين، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، الذين بالرغم من تيقّنهم من مثابرتهم وخلاصهم، كانوا مواظبين على الصلوات وتدريبات التقوى الأخرى.

الرفض 7

أن إيمان أولئك الذي يؤمنون إلى حين لا يختلف في شيء عن الإيمان الذي للتبرير والخلاص إلا من حيث المدة الزمنيّة.

لأن المسيح نفسه، في متى 13: 20، ولوقا 8: 13، وفي مواضع أخرى أيضًا، يَذكُر بوضوح أنه إلى جانب المدة الزمنيّة، توجد ثلاثة أوجه اختلاف بين مَن يؤمنون فقط إلى حين والمؤمنين الحقيقيين؛ إذ قال إن النوع الأول يستقبل البذار في أرض محجرة، بينما يستقبلها النوع الأخير في الأرض الجيدة أو في القلب الجيد؛ وإن النوع الأول ليس له أصل في ذاته، بينما النوع الأخير له أصل راسخ؛ وإن النوع الأول عديم الثمار، بينما النوع الأخير يصنع ثماره بدرجات مختلفة في استمرارية وثبات.

الرفض 8

أنه ليس من المنافي للعقل أنه حين يفقد أحدهم تجديده الأول، يمكنه أن يولد من جديد مرارًا وتكرارًا.

لأن هؤلاء بهذا التعليم ينكرون عدم فناء زرع الله، الذي به نولَد ثانية، على خلاف شهادة الرسول بطرس: “مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى” (1 بطرس 1: 23).

الرفض 9

أن المسيح لم يصلِّ في أي موضع لأجل ثبات المؤمنون على نحو قاطع في الإيمان.

لأنهم يناقضون قول المسيح نفسه: “وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ (سمعان) لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ” (لوقا 22: 32)؛ ويناقضون يوحنا البشير، الذي قال إن المسيح لم يصلِّ من أجل الرسل فحسب، بل أيضًا من أجل الذين سيؤمنون به بكلامهم: “أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي؛ وأيضًا: “لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ؛وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ” (يوحنا 17: 11، 15، 20).

ارجع الى قائمة المحتويات

الخاتمة

هذا هو التصريح الواضح، والبسيط، والصريح عن التعليم القويم بشأن البنود الخمسة التي ثار جدلٌ بشأنها في الكنائس البلجيكيّة، ورفض الضلالات التي أزعجتها لبعض الوقت. يقر السنودس بأن هذا التعليم مُستمَد من كلمة الله، ومتَّفق مع إقرارات إيمان الكنائس المُصلَحة. ومنه يتبيَّن بوضوح أن البعض ممَّن تصرفوا على هذا النحو قد انتهكوا كل حق، وإنصاف، ومحبة، رغبةً منهم في اقناع العامة بالآتي:

أن تعليم الكنائس المُصلَحة فيما يتعلّق بسابق التعيين، والتعاليم المصاحبة له، هو، في طبيعته ونزعته الجوهريّة، تعليمٌ يضل أذهان الناس عن كلِّ تقوى وتديّن؛ ومخدّر يتعاطاه الجسد والشيطان؛ وقلعة يكمن فيها إبليس، منتظرًا الجميع؛ ومنها يصيب جماهير كثيرة، ويسدِّد نحو الكثيرين ضربات قاضية بسهام كلٍّ من اليأس والشعور بالأمان؛

وأنه يجعل الله مصدرًا للخطية، وظالمًا، وطاغية، ومنافقًا؛

وأنه لا يزيد عن كونه شكل جديد من الرواقيّة، والمانويّة، والتحرريّة، والإسلام؛

وأنه يكسِب البشر شعورًا جسديًّا بالأمان، لأنهم يقتنعون من خلاله بأنَّ لا شيء يمكن أن يعيق خلاص المختارين، حتى إن سلكوا كما يحلو لهم؛ ومن ثَمَّ، فإنهم يستطيعون دون خوف ارتكاب أبشع أنواع الجرائم؛

وأنه حتى إن صنع المرفوضون بالحقيقة جميع أعمال القديسين، لن تساهم طاعتهم هذه بشيء في خلاصهم؛

وأن هذه العقيدة نفسها تعلِّم بأن الله، في تصرُّف تعسّفي وعشوائي بحت نابع من مشيئته، ودون أدنى اكتراث أو اعتبار لأيّة خطية، قد سبق فعيَّن الجزء الأكبر من العالم للدينونة الأبديّة، ثم خلقهم لهذا الغرض عينه؛

وأنه كما أن الاختيار هو منبع وسبب الإيمان والأعمال الصالحة، كذلك الرفض أيضًا هو سبب عدم الإيمان وعدم التقوى؛

وأن العديد من أبناء المؤمنين يُنتزَعون دون أي ذنب ارتكبوه من على أثداء أمهاتهم، ويُطرَحون في الجحيم دون أدنى رحمة؛ بحيث لا تجديهم المعموديّة أو صلوات الكنيسة عند معموديتهم نفعًا على الإطلاق“.

وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل لا تعلِّم بها الكنائس المُصلَحة بأي حال من الأحوال، بل وأيضًا تمقتها من كل كيانها.

ولهذا السبب، يناشد سنودس دورت، باسم الرب، أكبر عدد ممَّن يَدعُون في تقوى باسم مخلصنا يسوع المسيح، أن يحكُموا على إيمان الكنائس المُصلَحة، لا من خلال الافتراءات، التي تسقط عليها من كل جانب؛ ولا من خلال التعبيرات الشخصيّة للقليلين من المعلّمين القدامى والمعاصرين، والتي عادة ما تُحرَّف، أو يساء اقتباسها أو تفسيرها في خداعٍ لتعطي معنى آخر غريبًا تمامًا عن القصد منها؛ بل أن يحكموا من خلال الإقرارات العامة للكنائس نفسها، وشرحها للعقيدة القويمة؛ المُصدَّق عليها من خلال موافقة بالإجماع من جميع أعضاء السنودس.

علاوة على ذلك، يحذّر السنودس المفترين أنفسهم بأن يفكِّروا في دينونة الله المروِّعة التي تنتظرهم، لأجل شهادتهم الزور ضد إقرارات الكثير جدًا من الكنائس، ولأجل إزعاجهم لضمائر الضعفاء، واجتهادهم كي يثيروا الشكوك في جماعة الأمناء الحقيقيين.

وأخيرًا، يحث هذا السنودس جميع الإخوة في إنجيل المسيح على التعامل بتقوى ومهابة مع هذه العقيدة، سواء في الجامعات أو الكنائس؛ وأن ينادوا بها، سواء في الأحاديث أو في الكتابة، لمجد اسم الله، وقداسة الحياة، وتعزية النفوس المتألّمة؛ وأن يضبطوا، بواسطة الكتاب المقدس، وبحسب مثال الإيمان، لا عواطفهم فحسب، بل أيضا كلامهم؛ وأن يمتنعوا عن كل تلك العبارات التي تتجاوز الحدود التي يلزم الالتزام بها في أثناء تحقُّقهم من المعنى الحقيقي للنصوص المقدسة، والتي يمكن أن تزود السفسطائيين الوقحين بذريعة جيدة حتى يهاجموا بعنف عقيدة الكنائس المُصلَحة، بل ويشهروا بها.

ليت يسوع المسيح، ابن الله، الجالس عن يمين الآب، ويعطى الناس عطايا، يقدِّسنا في الحق، ويقتاد إلى الحق مَن يضلون، ويسد أفواه المفترين على العقيدة الصحيحة، ويهب خدام كلمته الأمناء روح الحكمة والتمييز، حتى تؤول كل عظاتهم لمجد الله وبنيان سامعيهم. آمين.

نشهد بأن هذا هو إيماننا وتقريرنا بكتابة أسمائنا:

الأسماء كالتالي، ليس فقط الرئيس، مساعد الرئيس، ومسؤولي سكرتارية السنودس، وأساتذة اللاهوت في الكنائس الهولنديّة، بل أيضًا أسماء كل الأعضاء الذين انتُدبوا لهذا السنودس كممثّلين عن كنائسهم، أي مفوَّضين من بريطانيا العظمي، وبالاتينات الراين، وهـِـسـِّـن، وسويسرا، وواترو، وجمهورية وكنيسة جينيفا، جمهورية وكنيسة بريمن، وجمهورية وكنيسة إيمدن، ودوقية جيلدرلاند وزوتفين، وجنوب هولاندا، وشمال هولاندا، وزيلاند، ومقاطعة أوترخت، وفريزلاند، وترانسلفانيا، ولاية جروننجين وأوملاند، ودرينت، والكنائس الفرنسيّة.

ارجع الى قائمة المحتويات