ماذا يعني أن تكون شهيداً في المسيحية؟

وَكَثِيرُونَ غَيْرُهُمْ تَحَمَّلُوا الْمُحَاكَمَاتِ الظَّالِمَةَ تَحْتَ الإِهَانَةِ وَالْجَلْدِ، وَالإِلْقَاءَ فِي السُّجُونِ مُقَيَّدِينَ بِالسَّلاسِلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حُوكِمُوا فَمَاتُوا رَجْماً بِالْحِجَارَةِ، أَوْ نَشْراً بِالْمِنْشَارِ، أَوْ ذَبْحاً بِالسَّيْفِ. وَبَعْضُهُمْ، تَشَرَّدُوا مُتَسَتِّرِينَ بِجُلُودِ الْغَنَمِ وَالْمِعْزَى، يُعَانُونَ مِنَ الْحَاجَةِ وَالضِّيقِ وَالظُّلْمِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ يَسْتَحِقُّهُمْ، تَائِهِينَ فِي الْبَرَارِي وَالْجِبَالِ وَالْمَغَاوِرِ وَالْكُهُوفِ.” (عبرانيين 11: 36-38)

كل الديانات عندهم شهداء، لكن هنالك أمر فريد في شهداء المسيحية.

أولاً، من الجيد أن نلاحظ أنه بالرغم من أن ربنا يسوع المسيح مات ميتة فظيعة على يد أولئك الذين كرهوه، إلا أنه لم يمت شهيداً. فموت الرب يسوع فريد في التاريخ لأنه مات بصفتهحَمَلُ اللهِ الَّذِي يُزِيلُ خَطِيئَةَ الْعَالَمِ(يوحنا 1: 29). عندما تقرأ التسجيلات عن موته في الأناجيل، تدرك سريعاً أن موت الرب يسوع لم يشابه موت أي كان. عندما نقرأ القصص عن آلام وموت الشهداء، تسهل رؤيتهم كأبطال فنرغب بالتشبه بهم. لكن هذا ليس الحال في آلام وموت الرب يسوع. فالرب يسوع نفسه قال: “لَا أَحَدَ يَنْتَزِعُ حَيَاتِي مِنِّي، بَلْ أَنَا أَبْذِلُهَا بِاخْتِيَارِي. فَلِي السُّلْطَةُ أَنْ أَبْذِلَهَا وَلِيَ السُّلْطَةُ أَنْ أَسْتَرِدَّهَا(يوحنا 10: 18). مات الرب يسوع مخلِّصاً لا شهيداً. وقام الرب يسوع من بين الأموات في اليوم الثالث، قاهراً الموت إلى الأبد.

واحدة من الحقائق المجيدة للإيمان المسيحي هي أن مكاننا في السماء أصبح مؤمَّناً إلى الأبد، مُشترىً ومضموناً بدم الرب يسوع. فالمسيحي لا يحاول تأمين مكانه في الفردوس من خلال الشهادة لأن الرب يسوع فعل ذلك من أجله.

يعلم ربنا يسوع أسلوباً فريداً للحياة.

إذا يعلمنا الرب يسوع أننا إذا أردنا أن نكون أتباعه، فعلينا أن نحب الجميع حتى أولئك الذين يسيئون إلينا. “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ؛ أَحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ؛ بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ؛ صَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ .. وَبِمِثْلِ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يُعَامِلَكُمُ النَّاسُ عَامِلُوهُمْ أَنْتُمْ أَيْضاًوَإِنْ أَحْسَنْتُمْ مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ مُعَامَلَتَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخَاطِئِينَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا. (لوقا 6: 33, 31, 28-27). لهذا، إذا مات المسيحي شهيداً فلا يمكنه أن يكره أولئك الذين يقتلونه، بل ينبغي عليه أن يحبهم.

تاريخ المسيحية ذاخر بقصص الشهداء، رجال ونساء أحبوا المسيح طوعاً أكثر من محبتهم لحياتهم.

نلتقي أول شهيد مسيحي بعد بضع سنوات من قيامة الرب يسوع وصعوده إلى السماء. إذ كاناسْتِفانوسقائداً شاباً في كنيسة أورشليمهُوَ رَجُلٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الإِيمَانِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ(أعمال الرسل 6: 5). خطفه اليهود وطرحوه خارج المدينة، ورجموه بوحشية حتى الموت. كانت كلماته الأخيرة قبل أن يستشهديَا رَبُّ، لَا تَحْسُبْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْخَطِيئَةَ(أعمال الرسل 7: 60). بعد سنوات قليلة، يعقوب، أحد تلاميذ الرب يسوع الاثني عشر، استشهد على يدهيرودس، الحاكم المحلي، بقطع رأسه (أعمال 12: 2). وبحسب التاريخ، غفر لمن نفّذوا حكم الإعدام.

بعد حوالي 35 عاماً من قيامة المسيح، استشهد الرسولان بطرس وبولس في روما بيد الإمبراطورنيرو؛ إذ صُلِب أحدهما مقلوباً وقُطِع رأس الثاني. خلال السنوات المائة والخمسين الأولى للكنيسة، كانت هنالك أربع فترات رئيسية من الاضطهاد الشديد من الإمبراطورية الرومانية. اعتُقلبوليكارب، رجل شيخ وتلميذٌ للرسول يوحنا، لكرازته بالإنجيل. وأُحضِر إلى مدرج ليُحرَق على وتد لإيمانه. وأمام الجَمْع، أُعطي فرصةً ليرتد عن إيمانه ويُنكِر الرب يسوع لينجو من الإعدام. فرفع الشيخ التقي بوليكارب رأسه عالياً وقال: “اسمعوني بانتباه: أنا مسيحي. كنت خادماً للمسيح طوال 84 عاماً، وهو لم يسيء إليّ. كيف يمكنني التجديف ضد ملكي الذي خلّصني؟“. بعدها أُحرِق حياً وطُعِن بسيف.

خلال الجيل الأول من المسيحيين بعد جيل الرُّسُل، كانأغناطيوسراعي كنيسة مؤثر في سوريا. اعتُقِل لكونه مسيحياً وأُخِذ إلى روما ليُلقى إلى الحيوانات البرية أمام سخرية الجماهير الكارهة. خلال الرحلة الطويلة إلى روما، كان تحت حراسة عشر حراسالذين ساءت معاملتهم عندما عوملوا بالحُسنى“. آمنأغناطويسأنالمسيحية تكون أعظم عندما يكرهها العالم“. وكتباسمحوا للعالم بأن يتلقى التوجيه منكم، من خلال أعمالكم على الأقل؛ فاستجابة لغضبهم كن لطيفاً، واستجابةً لتفاخرهم كن متواضعاً، واستجابة لافترائهم ارفع صلواتك، واستجابة لأخطائهم اثبت في إيمانك، واستجابة لقسوتهم كن متحضراً. لا تتُق إلى تقليدهم“. قبيل موتاغناطيوس، عارفاً أنه سيُطعم إلى وحوش جائعة، قال: “النار والصليب والمعارك مع الوحوش البرية، والبتر والتشويه، وسحق العظام، وتقطيع الأطراف، وسحق جسدي كله، وتعذيب الشيطان القاسيليأتِ كل هذا عليّ لكن دعني أصل الى يسوع المسيح! فلا أقاصي الأرض ولا ممالك هذا العصر تفيدني. فأفضل بالنسبة لي أن أموت من أجل يسوع المسيح من أن أحكم أقاصي الأرض. أسعى إلى ذاك الذي مات نيابة عنا، إليه أتوق ذاك الذي قام مرة أخرى من أجلنا“. وفيما كانت الحيوانات الضارية تقطع أشلاءه ماتأغناطيوس” شهيداً مزدرياً العالم وناظراً إلى الرب يسوع الذي يمنح الكرامة والحياة.

بعد 150 عاماً من موت الرب يسوع الكفّاري على الصليب، كتبترتليان، لاهوتي ومفكر مسيحي عظيم فيما تُعرَف اليوم بـتونس” –كتب إلى حكام امبراطورية روما الذين كانوا يضطهدون المسيحيين بلا رحمة في كل أنحاء العالم. ناشدهم لوقت الاضطهاد. وكتب في نهاية رسالته: “لكن استمروا بحماس يا حكام امبراطورية روما الصالحين، فسيحبكم الناس أكثر إذا ضحيتم بالمسيحيين نزولاً عند رغباتهم. اقتلونا، عذبونا، أدينونا، واطحنوناً غباراً. فظلمكم ما هو إلا إثبات لبراءتنا .. وقسوتكم، مهما كانت شديدة، لن تنفعكم وإنما تحرّضنا لنكون أفضل. فكلما اقتلعتم منا كلما زاد عددنا؛ فدم الشهاء هو بذرة الكنيسة“. آمن ترتليان أنه بقدر ما يقتل عديمو الإيمان المؤمنين بيسوع المسيح بقدر ما ازداد عدد المؤمنين.

تأسس ملكوت الله بآلام وموت يسوع المسيح وتوسع بآلام وموت أتباعه. الشهيد المسيحي الحق هو الذي يُقتَل لأجل إيمانه في الرب يسوع المسيح المُقام من الأموات والذي يحاكي محبة المسيح بمحبته وغفرانه لأولئك الذي يأخذون حياته.

“وَخَاطَبَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً فَقَالَ: «أَنَا نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَتَخَبَّطُ فِي الظَّلامِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ».”

إنجيل يوحنا 12:8